صــــرخة يــأس

فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة ‏ ‏ حفظت شيئا وغابت عنك أشياء‏

- أبـو نـواس -‏

غاص في ظلام صالة السينما. شريطا سينمائيّا روائيّا عن الحرب في فييتنام. ثمة مناظر مرعبة عن تفجير جماجم. وبقر حبالى. وتحطيم عظام. وخاتمة القصة أغنية فييتناميّة عن الحرب والكفاح والنصر.‏

جمد بصره لحظات قلائل على شاشة السينما عقب انتهاء العرض. لبث ذاهلا برهة، ثمّ ثاب اليه وعيه وصوابه.‏

جرفه تياّر النظّارة والسابلة، فانقاد له بلا وعي. جرى غمام كثيف في سماء المدينة جريانا سريعا. حط سرب طير على أشجار حديقة الكينا ) . أفكاره ألسنة لهب عارم. والكون زنزانة بلا أبعاد. لذا لا صائخ ثمّة ولا غائث. مضى نحو طريق النهر. هل تحلم الأسماك في قعر الماء أيضا؟ . بعض الأسماك حقّقت المعجزة خلال ملايين السنين واستحالت إلى كائن برّى. ربمّا استحال إلى ملاك أيضا. سأل طبيب الأعصاب مرّة عن معنى الجنون. اجابه قائلا :‏

_ حين تظنّ انّ النّاس قاطبة بلهاء وحمقى‏

عندئذ سأله عن معنى العبقريّة أيضا. فاجابه :‏

_ حين تظنّ انّ النّاس قاطبة بلهاء وحمقى فسأله ذاهلا :‏

_ أىّ سبيل أسلك اذن؟‏

_ الحكمة وهي سبيل وسط بين الجنون والعبقرّية‏

سفعت ريح تشرين أعالي الأبنية وذرى الأشجار. ردّد بلا صوت :‏

_ الحكمة وهي سبيل وسط بين الجنون والعبقريّة‏

ظاهر المدينة خال من النّاس. وهو المكان الأمثل للتفكير والتأّمل. تفّرس في جثّة كلب دهسته سيّارة عابرة. ما معنى حياته؟ وما مغزى موته؟ . بنى عبّاس الأخرس ) استراحة صغيرة على ضفّة النهر، لجأ اليها كدأبه. احتسى البراندى ) . أحببت مئات النساء سدى. رئيس مكتب العمل. عمل شاق. يدرّ مالا طائلا لو شاء. بيد انّه تعفف. لم يحمده أحد على أمانته واستقامته. بل على العكس. لقد لامه رئيسه مرارا. لامعنى للعبقريّة حقّا، لكن للدهاء معنى خطرا وأثرا جليلا. الرهبان والملائكة والطاغوت والشيطان. وهذا اجابة أيضا عن سرّ ابتداع اسم وتعريف للشيطان في تراث الأمم. انّ الاصطلاحات نتائج نظر في ظاهر الكون وباطن النفس.‏

أحببت ليلى وهيفاء ومنى بلا طائل. عاش حقبة على المنى وكتم الغيب ابتسامة هازئة عنه. طارحته الغرام فتاة سمراء. غازلته وداعبته لكنّه هائب. تملكه الهلع. فولّى ظهره للحلم الدفين.‏

* * *‏

أنا ذرّة هائمة في مدارناء‏

* * *‏

انّه ضائع وحزين. قال له سكارى الأمس ا نّ البراندى ) شراب قوىّ. لكنه أصرّ على احتسائه إلى أن دهمه المرض. عندئذ اضطر للاقلاع عنه. لازالت الرؤيا عنده كشريط سينمائي أوبضعة مشاهد منه ثمّ لايلبث أن يعمّ الظلام. عندما لمح صفاء ) للمرة الأولى، هاله الحسن الفائق. انّها جنى الأطياف وعبير الأزهار و صفاء ) الماء والهواء. بل نقاء الأثير وصفاء الاشعاع.‏

وعجب كيف تتمخّض بيئة غارقة في الأوهام و الأضاليل عن جمال كجمالها. لقد جحظت عيناه. وفغر فاه دهشة. ثمّ فاء اليه صوابه حين خلا إلى خنساء ) وباحت له بما تكنّه. قالت‏

ا نّها رقيقة الحال وا نّها تعيل أسرة ثمّ جذّ نواجذه استياء حين قالت :‏

_ ا نّها تساوى أجر شهرين‏

ربّاه. أريج الجنان بذلته الحاجة والغباء للرقعاء.‏

بدت له أشجار الحديقة الجرداء ميتة. وضاع صراخه في عالم عابث أسمى غاياته عبثه. إلى أي ضرب من فصائل الحيوان تمتّ صفاء ) . هل هي من الفقاريات ) أم من اللافقاريات) ؟ وكيف يباح للجوهر أن يباين الأسم؟ ولم لاتطغى الهوام والحشرات على العالم وتلتهمه التهاما؟ وما معنى مليون سنة ضوئيّة؟ ومن سبى من ؟ ولماذا ؟ وكيف تتلاشى صرخة يأس يائس؟‏

عاهرة اذن. ينبغي أن أبحث عن معنى هذه الكلمة في معاجم اللغة وفي كتب التاريخ والأساطير والفن. ثمّ عجب حين حمّ لقاؤه بها، لأرى كيف يبدو النّضار حين انظر إليه عن كثب.‏

إنها ساذجة وغريرة. كيف هان على خنساء ) أن تدير شبكة رقيق أبيض أو أسود؟ كره خنساء ) وكره أفانين العبث والمجون قال له طبيب الأعصاب :‏

_ انّ البغاء طقس سام في عقائد الغابرين ثم قفّى قائلاً:‏

_ ثم حظره الدين في شعائره.‏

ونظر اليه بامعان قائلا :‏

لاتكن طائشا‏

_ طائشا..؟‏

انّها بلا معارف علميّة أو فلسفيّة. لكن حرارة الحب تعيض عن حدّة الذكاء. تناقض غريب. سرعان ما شفّ عن سجايا بدائيّة في طباع صفاء ) . بدت حريصة أشدّ الحرص على المال. ثمّ لم تلبث أن شرعت تغدق عليه في ضائقته وعسرته. كأنّها لا تأبه ألبتة لما تهب. وهي تهيم به هياماً كاد أن يغدو مقتاً وبغضاً.‏

وهبته الدفء والجسد والألفة.ثمّ سلبته الحنين الى حقائق طمسها العبث واللامبالاة والحماقة.‏

. . .‏

أنا ذرّة هائمة في مدارناء‏

. . .‏

قصفت ريح عاصفة أجنحة فراشة.يالهشاشة الجمال.أجفانه لاتغمض لدى انبلاج الفجر.سكن روعه قليلا.صلّى لله صلاة عرفان.‏

-صفاء.أنا لا أصلح للحب‏

-بعد أن جرى ما جرى؟‏

ردّد بعناد:‏

-أنا لا أصلح للحب‏

ارتدى معطفه ثمّ رام الخلاء.تنسمّ هواء نقيّا.خضّب النّدى النباتات.ألقى الفجر أشعّة حمراء على الأشياء وهدر تيّار النهر.تنفّس مليّا.سرى قطيع أغنام نحو ضفّة الفرات.عاد أدراجه وقد تلاشى شروده.أغفى قليلا حين أعياه سهاده.صبرا.ونيّة صادقة.عالج بأساءه علاجا صادقا.صمته زهادة وعبادة.اللهمّ صبرا وظفرا على نزع شيطان ثوى في أمّ دماغه.لامرية أن الأذى بشرى.شكا بثّه وغمّه للريح.حطّ سرب طير على أشجار حديقة الكينا) .أفكاره ألسنة لهب عارم.والكون زنزانة بلا أبعاد.لذا لا صائخ ولا غائث.‏

لاشكّ أنّ الأسماك تحلم أيضا.لكنها تموت أثناء الحلم.استحال صفاء الاشعاع الى ضوء باهت بلا بريق ولا ألق.‏

- 29/12/992-‏

(1) - ألقيت في المركز الثقافي العربي بالرقة . برعاية اتحاد الكتاب العرب . مساء 29/2/1992.‏

يسلمووو خيوو دحومي
على طرح الحلووو
تقبل مروري